التوسع والاستيطان في الفكر الصهيوني
*محمد بن سعيد الفطيسي
إن ما تقوم به الحكومة الصهيونية الإسرائيلية في فلسطين العربية المحتلة ,
من محاولات التوسع والاستيطان وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وبناء المساكن والمستوطنات , والتي كان أخرها ما نقلته صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن مساعد رئيس بلدية القدس يهوشوا بولاك , والذي أعلن عن نية الحكومة الاسرائلية لبناء 20 ألف مسكن في حيين جديدين في القدس الشرقية , وذلك بهدف ربط القدس بمستعمرات غوش عتصيون بالإضافة إلى مستعمرات أخرى كما تدعي حكومة الكيان الصهيوني , لا يمكن أن نطلق عليه بالظاهرة الاستعمارية الجديدة في فكر هذا الكيان الإرهابي المحتل للدولة العربية الفلسطينية المسلمة , وإنما هو فكر متأصل في جذور تاريخ هذا الكيان الغاصب منذ القديم
و( مسألة مألوفة كغيرها من القضايا الكثيرة والمتنوعة التي تتداخل في تعقيداتها الاحتلالية القاسية والوحشية مع النهج السياسي العملي المفروض على الشعب الفلسطيني , من خلال الممارسات القمعية التي تنتجها حكومة الاحتلال وسلطاتها العسكرية ) , ولهذه الظاهرة بالطبع أبعاد كثيرة ومختلفة , أريد من وراءها ترسيخ الوجود الصهيوني , وتحقيق الاستقرار للمستعمرة الإسرائيلية الكبرى المسماة بإسرائيل على ارض فلسطين , ونوجزها في البعد الأيديولوجي - التاريخي والديني - , والبعد الاقتصادي والأمني العسكري والسياسي القومي والديموغرافي 0
وقد تناولت هذه الأبعاد في تاريخ الفكر الصهيوني العديد من الدراسات والبحوث الأيديولوجية و التاريخية , والتي خلصت في مجملها إلى تلازم هذه التوجه الاستيطاني مع ذلك الفكر العدواني , فهي عقيدة متأصلة قبل أن تكون سياسة مستحدثة ,( فالحقيقة هي أن لا صهيونية بدون استيطان ، ولا دولة يهودية بدون إخلاء العرب ومصادرة أراضيهم و تسييجها ) , وطردهم منها وتحويلهم إلى لاجئين ونازحين , ومن ذلك المنطلق فان ابسط تعريف لهذه الظاهرة هي أنها , محاولات الحكومة إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وإحلال السكان الذين ينتمون لدولة الاحتلال مكانهم عبر الوسائل التعسفية والقهرية والقمعية الإرهابية وما يرافق ذلك من مصادرة للأراضي العامة والخاصة دون مراعاة لأي اعتبارات إنسانية وأخلاقية أو سياسية او قانونية أو غيرها 0
و قد بدأت فكرة الاستيطان في فلسطين ، تلوح في الأفق ( بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوروبا ، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي الجديد ترويج فكرة تقضي بأن اليهود ليسوا جزءاً من النسيج الحضاري الغربي ، لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ماعليـهم من الواجـبات ، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، ويجب أن يعودوا إليه ، وكانت أولى الدعوات لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنمركي أوليجربـولي Oliger poulli عام 1695 م ، والذي أعد خطة لتوطين اليهود في فلسطين ، وقام بتسليمها إلى ملوك أوروبا في ذلك الوقت ، وفي عام 1799م , كان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أول زعيم دولة يقترح إنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا ) 0
ولكون هذا الاستيطان من أهم العوامل الرئيسية للبقاء الصهيوني في هذا العالم , فقد ظل على قمة الأولويات السياسية الإسرائيلية الحكومية وبمختلف تقسيماتها وفروعها , ما بين يمين ووسط ويسار, بل وأيديولوجياتها السياسية والدينية منها او التصحيحية , وان دل هذا على شي , فإنما يدل على الأهمية البالغة والقصوى لهذا النهج الاستيطاني في فكر بناء الدولة الصهيونية الحديثة , او المستعمرة الإسرائيلية الكبرى على ارض الطهر والرسالات فلسطين العربية المحتلة , بل ونراه دائم التصدر على قمة الأولويات الصهيونية الإسرائيلية في جميع المحافل الدولية , وليس ذلك إلا لكونه أداة هامة لممارسة الفكر الاستيطاني الذي تقوم عليه النظرية الصهيونية , مدعومة بكل وسائل القمع والبطش والإرهاب , والدعم المتزايد من قبل منظمات الضغط الصهيونية المتوغلة في جل الدول الكبرى بشكل عام , وفي الولايات المتحدة الاميريكة على وجه التحديد , والتي من شأنها تغيير الواقع الفلسطيني من خلال التصرفات المكرسة بأعمال البناء والهدم واستقدام المهاجرين اليهود من مختلف أرجاء الأرض 0
وليتحقق لتلك القطعان الإسرائيلية الهمجية الغلبة الديموغرافية على الرقعة الجغرافية الفلسطينية في نهاية المطاف بحسب الاعتقاد الإسرائيلي , ودون الأخذ بالاعتبار إلى حقوق الشعب الفلسطيني الإنسانية منها والأخلاقية والقانونية , وتنبع تلك الأهمية الإستراتيجية للاستيطان الصهيوني في فلسطين ( من خلال كون هذا الاستيطان يشكل العمود الفقري والتطبيق العملي للصهيونية , واللبنة الأولى لإنشاء الكيان الإسرائيلي في فلسطين، فإسرائيل (كدولة) ما هي في الحقيقة إلا مستوطنة كبيرة قامت على أساس غزو الأرض وطرد سكانها العرب , وإنشاء كيان غريب عن المنطقة العربية من خلال جلب المهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم واستيطانهم فيها ) 0
وعلى رأس تلك الأبعاد التي تحاول الحكومة الإسرائيلية تحقيقها من خلال ظاهرة التوسع والاستيطان , هو المحافظة على البعد الأيديولوجي للديانة اليهودية المتمثل في العقيدة والدين , بالرغم من أن الحركة الصهيونية قائمة على البعد السياسي بالدرجة الأولى , إلا أن فهما لأهمية هذا البعد لتعميق الربط الروحي والعقائدي ما بين المواطن الإسرائيلي بأرضه ووطنه , ومزج ذلك بتلك الأساطير الإسرائيلية المتمثلة بالوعود الإلهية للشعب المختار , سيزيد من عمق تمسك المواطن الإسرائيلي الصهيوني ودعمه لحكومته في هذا التوجه , بل وسيكون محفزا لليهود من مختلف دول العالم للعودة إلى فلسطين من جديد , وقد لعب الدين الكثير في تاريخ الديانة اليهودية قديما وحديث , لدرجة أن الصهيونية قد نجحت في استغلال هذا البعد بدرجة كبيرة جدا في سياساتها التوسعية في فلسطين العربية , بل وفي العالم باسره 0
ومن أهم القراءات المتزمتة التي تدل على خطورة هذا البعد في العقيدة الصهيونية السياسية الحديثة , قول الجنرال موشي ديان , في صحيفة الجيروزاليم بوست , بتاريخ 10/ أغسطس / 1967 م , إننا ( إذا كنا نملك التوراة , ونعتبر أنفسنا شعب التوراة , فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة ) , وفي هذا السياق يوضح مارتين جيلبرت معنى تطور الصهيونية الدينية وادعاءاتها المتعلقة بالضفة الغربية فيقول :- ( إلى جانب النمو السريع لحركة ارض إسرائيل بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية سنة 1967 م , تحولت الصهيونية الدينية فعليا إلى حركة استيطان في الضفة الغربية , مدفوعة برؤية مسيانية قوامها إن الاحتلال اليهودي لكل الأرض خطوة حاسمة في طريق الخلاص الجسدي والتجديد الروحي ) 0
أما البعد السياسي والقومي لهذه الظاهرة فانه يتمثل في انه يلبي مطالب واسعة من القوى السياسية الفاعلة في إسرائيل , وخصوصا القوى الدينية منها والصهيونية السياسية , والتي طالما ظلت تنادي يتوسع هذا الكيان ليحقق البعد القومي والسياسي لإسرائيل التاريخية , وان بدا ذلك بتوسع داخلي للاستيطان , بالرغم من أن هذا البعد لا يختلف كثيرا عن البعد السابق المتمثل في عقيدة الوعد وأسطورة الشعب المختار , فهنا لا نستطيع أن نفصل كثيرا ما بين السياسة والدين في قاعدة الايدولوجيا الاستيطانية للحكومة الإسرائيلية الصهيونية , فانطلاقا من هذا الوعد الإلهي - كما يقول الكاتب الفرنسي روجيه غارودي - ( يذهب القادة الصهاينة وحتى الملحدين منهم إلى القول :- بان الرب قد وهبنا ارض فلسطين , وذلك دون التساؤل عن طبيعة هذا الوعد , او ما ينطوي عليه الميثاق المعقود مع الرب , او ما إذا كانت هناك شروط لذلك الاختيار الإلهي ) , وهو ما أكده رفض القيادة السياسية الإسرائيلية لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة , والذي اعتبرته تلك القيادات السياسية تقسيم للوعد الإلهي المتمثل في كامل الأراضي الفلسطينية وما حولها , او إسرائيل التاريخية من الفرات إلى النيل , حيث نقلت صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 6 / ديسمبر / 1953 م , إعلان بن غوريون أن ذلك القرار الذي أصدرته الأمم المتحدة بتاريخ 29/ نوفمبر / 1947 م , باطلا ولاغيا , كونه لا يحقق الإرادة الإلهية او البعد السياسي التاريخي والقومي للشعب اليهودي 0
كذلك فان البعدين الاقتصادي والأمني , واللذين لا نستطيع أن نفصلهما عن بعض , كونهما متلازمين دائمين وطبيعيين لاستتباب الاستقرار والتقدم المدني , فأنهما يمثلان نفس القيمة المعنوية لمستعمرة إسرائيل الكبرى من حيث الفكرة الهادفة إلى السيطرة على ارض فلسطين التاريخية من خلال فكرة الاستيطان والتوسع , حيث تبلغ مساحة الضفة الغربية والقطاع نحو 23 % من مساحة هذه الأرض , وبذلك يتحقق لإسرائيل السيطرة على الموارد الطبيعية والأساسية في هذه الأراضي , كالمناطق الزراعية الخصبة والقوى البشرية العاملة و الموارد المائية , كما يحقق الاقتصاد الإسرائيلي الكثير من الأهداف المستقبلية , ويجنبها العديد من المشاكل الاقتصادية والأمنية , المتمثلة في انخفاض معدل نمو الاستثمار وارتفاع الدين الخارجي, وزيادة مستوى التضخم , وكثرة الباحثين عن العمل وما يترتب على ذلك من جرائم وخلافه , ومن هذا المنطلق فقد رأى جل الزعماء الإسرائيليون في الهجرة اليهودية والاستيطان حلاً لجميع مشاكل إسرائيل الأمنية من خلال خلق مؤسسة عسكرية قوية مزودة بالعناصر البشرية ، والاقتصادية من خلال توفير الأيدي العاملة والأراضي اللازمة لإقامة المنشآت الاقتصادية والسياسية من خلال ضمان الاعتراف والإقرار بشرعية الأمر الواقع الذي يجسده الاستيطان في المناطق المحتلة ) 0
وختاما فان البعد الديموغرافي لظاهرة التوسع والاستيطان , لا يقل أهمية بالنسبة لإسرائيل عن بقية الأبعاد السابقة , فهي بضمها لبعض مناطق الضفة الغربية والقطاع , وتوطين المهاجرين الجدد من اليهود فيها , يضمن لإسرائيل ضم اكبر مساحة ممكنة من الأراضي بأقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين , وبذلك تتحقق المعادلة الصعبة بين الأرض والأمن والسكان , كما يكفل للحكومة الإسرائيلية وسيلة سهلة لتهجير سكان القرى المجاورة لتلك المستعمرات , وبالتالي مزيدا من الأراضي الفلسطينية 0